وطنٌ تاه بين ضجيج الشاشات وصمت المسؤوليات

د. أمين عبدالخالق العليمي:
في زمن تحوّل فيه الإعلام غير المؤهل إلى لاعبٍ رئيسي، صارت الكلمة تُطلق بلا وعي، فتُربك مجتمعاً، وتُزعزع أسرة، وتُشعل ناراً في وطنٍ يبحث عن نسمة استقرار،
أدوات التواصل تحوّلت إلى ساحات بلا ضابط، يكتب فيها من شاء ما شاء، بلا أخلاقٍ تحكمها ولا مسؤولية تلجمها، فتمضي البلاد بين موجتين:
فوضى من الأسفل… وارتجال من الأعلى بتاثير الترندات،
لا اعمم ولكن اقول بعض المسؤلين يستيقظ من نومه، يبحث عن تغريدة ويكتب تغريدة، يجمع إعجابات، يرسل رسالة، ثم يعود إلى وسادته مطمئناً وكأنه أدي كافة مسؤلياته وشؤون واجباته نحو الدولة كلها في دقيقة، هل سيستقيم الوطن بمسؤل يستقي معلوماته من صفحات، ويستند في تقاريره إلى منشورات، في بلدٍ يدفع فاتورة كل كلمة غير محسوبة كل يوم بل وكل ساعة، وكل قرار لم يُبنَ على علم، بل على ما تهمس به شاشات الهواتف، وترندات السوشيال،
وفي المقابل، شعبٌ أدمن الترحيل والإساءة، لا يرى الحل إلا في الهدم، ولا يرفع صوته إلا ليصرخ، ولا يستخدم النقد إلا كسلاحٍ ضد نفسه قبل غيره، اربك الحكومة واربك الاعلام الحر واربك القياده،
وحكومةٌ تنشغل بالمرايا أكثر من انشغالها بالمؤشرات، تهمّها اللقطة أكثر من الخطة، والمظهر قبل الجوهر وماذا سيقولون قبل ان يبنون،
نخبٌ تتعامل مع الحرب وكأنها حالة طبيعية، وجيشٌ يتقاسمه المتنفذون في زمنٍ كان يفترض فيه أن يكون جسد الدولة الواحد،
ومع هذا الخليط القاتل من الفوضى والتجمّل، يصبح الوطن رهينة مزاج اللحظة، لا مشروع الدولة، وتصبح الكلمة أخطر من الطلقة، والصمت أحياناً أكثر تدميراً من الكلام،
وكل ذلك يحدث دون أن نشير بأصابع الاتهام إلى أحد، فالمشكلة لم تعد فرداً أو جهة… بل ثقافةٌ تتسع، ووعيٌ يتآكل، ومسؤولياتٌ تُلقى جانباً لصالح ضجيج المنصّات،
لقد أصبح صانع المحتوى الرقمي، والمؤثر الاجتماعي، والناشط الإلكتروني، يتحكم بـتوجهات الفرد، وتصورات الجماعة، وقرارات المسؤولين التنفيذيين،
ويفرض رأيه رغم خطابه الذي يثير الاشمئزاز من الركاكة، والعبارات الجارحة، والسوقية، والتهجم غير المبرر، وتشويه السمعة، وهو ما يعتبره قوة وجرأة في الطرح،
ولا يدرك بأنه حوّل مساحته الرقمية إلى مصدر لتلوث الفضاء العام، ومرتعاً للسجالات الهابطة التي يتجنبها كل ذي فكر مستنير وضمير يقظ،
لقد آن الأوان أن نستعيد عقل الدولة قبل أن نفقد قلبها، وأن نعيد احترام الكلمة قبل أن تقتل ما تبقّى من ثقة وان كانت الثقة تحتضر، وأن نفهم أن الأوطان لا تُدار بالمنشورات، ولا تُبنى بالإعجابات، ولا تُرمّم بالشعارات،
الوطن بحاجة إلى مسؤولٍ يستيقظ على الواجب… لا على الهاتف، وشعبٍ يبني ويعرف دوره أكثر مما يشتم، وحكومةٍ تنظر إلى الواقع لا إلى المرآة، فبهذا فقط نمنع الانهيار الهادئ الذي يجري تحت أقدام الجميع… دون أن يشعروا .






